فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {الله الذي خَلَقَكُمْ} أي أوجدكم {ثُمَّ رَزَقَكُمْ} أي أبقاكم، فإن العرض مخلوق وليس بمبقي {ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ هَلْ من شُرَكَائكُمْ مَّن يَفْعَلُ من ذَلكُمْ مّن شَىْء} جمع في هذه الآية بين إثبات الأصلين الحشر والتوحيد، أما الحشر فبقوله: {ثُمَّ يُحْييكُمْ} والدليل قدرته على الخلق ابتداء، وأما التوحيد فبقوله: {هَلْ من شُرَكَائكُمْ مَّن يَفْعَلُ من ذَلكُمْ مّن شَىْء}.
ثم قال تعالى: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْركُونَ} فقوله سبحانه أي سبحوه تسبيحًا أي نزهوه ولا تصفوه بالإشراك، وقوله: {وتعالى} أي لا يجوز عليه ذلك وهذا لأن من لا يتصف بشيء قد يجوز عليه فإذا قال سبحوه أي لا تصفوه بالإشراك، وإذا قال وتعالى فكأنه قال ولا يجوز عليه ذلك.
{ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرّ وَالْبَحْر بمَا كَسَبَتْ أَيْدي النَّاس ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَملُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ (41)}.
وجه تعلق هذه الآية بما قبلها هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فيهمَا آلهَةٌ إلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وإذا كان الشرك سببه جعل الله إظهارهم الشرك مورثًا لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم: {لَفَسَدَت السموات والأرض} [المؤمنون: 71] كما قال تعالى: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ منْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخرُّ الجبال هَدًّا} [مريم: 90] وإلى هذا أشار بقوله تعالى: {ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَملُوا} واختلفت الأقوال في قوله: {فى البر والبحر} فقال بعض المفسرين: المراد خوف الطوفان في البر والبحر، وقال بعضهم عدم إنبات بعض الأراضي وملوحة مياه البحار، وقال آخرون: المراد من البحر المدن، فإن العرب تسمي المدائن بحورًا لكون مبنى عمارتها على الماء ويمكن أن يقال إن ظهور الفساد في البحر قلة مياه العيون فإنها من البحار، واعلم أن كل فساد يكون فهو بسبب الشرك لكن الشرك قد يكون في العمل دون القول والاعتقاد فيسمى فسقًا وعصيانًا وذلك لأن المعصية فعل لا يكون لله بل يكون للنفس، فالفاسق مشرك بالله بفعله، غاية ما في الباب أن الشرك بالفعل لا يوجب الخلود لأن أصل المرء قلبه ولسانه، فإذا لم يوجد منهما إلا التوحيد يزول الشرك البدني بسببهما، وقوله تعالى: {ليُذيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَملُوا} قد ذكرنا أن ذلك ليس تمام جزائهم وكل موجب افترائهم، وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} يعني كما يفعله المتوقع رجوعهم مع أن الله يعلم أن من أضله لا يرجع لكن الناس يظنون أنه لو فعل بهم شيء من ذلك لكان يوجد منهم الرجوع، كما أن السيد إذا علم من عبده أنه لا يرتدع بالكلام، فيقول القائل لماذا لا تؤدبه بالكلام؟ فإذا قال لا ينفع ربما يقع في وهمه أنه لا يبعد عن نفع، فإذا زجره ولم يرتدع يظهر له صدق كلام السيد ويطمئن قلبه.
{قُلْ سيرُوا في الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ الَّذينَ منْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْركينَ (42)}.
لما بين حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم هلاك أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم فقال: {قُلْ سيرُوا في الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قَبْلُ} أي قوم نوح وعاد وثمود، وهذا ترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه في وقت الامتنان والإحسان قال: {الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} [مريم: 40] أي آتاكم الوجود ثم البقاء ووقت الخذلان بالطغيان قال: {ظَهَرَ الفساد في البر والبحر} [الروم: 41] أي قلل رزقكم، ثم قال تعالى: {سيرُوا في الأرض} أي هو أعدمكم كم أعدم من قبلكم، فكأنه قال أعطاكم الوجود والبقاء، ويسلب منكم الوجود والبقاء، وأما سلب البقاء فبإظهار الفساد، وأما سلب الوجود فبالإهلاك، وعند الإعطاء قدم الوجود على البقاء، لأن الوجود أولًا ثم البقاء، وعند السلب قدم البقاء، وهو الاستمرار ثم الوجود.
وقوله: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْركينَ} يحتمل وجوهًا ثلاثة أحدها: أن الهلاك في الأكثر كان بسبب الشرك الظاهر وإن كان بغيره أيضًا كالإهلاك بالفسق والمخالفة كما كان على أصحاب السبت الثاني: أن كل كافر أهلك لم يكن مشركًا بل منهم من كان معطلًا نافيًا لكنهم قليلون، وأكثر الكفار مشركون الثالث: أن العذاب العاجل لم يختص بالمشركين حين أتى، كما قال تعالى: {واتقوا فتْنَةً لاَّ تُصيبَنَّ الذين ظَلَمُوا منكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] بل كان على الصغار والمجانين، ولكن أكثرهم كانوا مشركين.
{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين الْقَيّم منْ قَبْل أَنْ يَأْتيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ منَ اللَّه يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)}.
لما نهى الكافر عما هو عليه، أمر المؤمن بما هو عليه وخاطب النبي عليه السلام ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء، وللمؤمنين في التكليف مقام الأنبياء كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين» وقد ذكرنا معناه، وقوله: {من قَبْل أَن يَأْتىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ منَ الله} يحتمل وجهين الأول: أن يكون قوله: {منَ الله} متعلقًا بقوله: {يَأْتىَ} والثاني: أن يكون المراد {لاَّ مَرَدَّ لَهُ منَ الله} أي الله لا يرد وغيره عاجز عن رده فلابد من وقوعه {يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي يتفرقون.
ثم أشار إلى التفرق بقوله: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ وَمَنْ عَملَ صالحا فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُونَ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ وَمَنْ عَملَ صالحا} ولم يقل ومن آمن وذلك لأن العمل الصالح به يكمل الإيمان فذكره تحريضًا للمكلف عليه، وأما الكفر إذا جاء فلا زنة للعمل معه، ووجه آخر: وهو أن الكفر قسمان: أحدهما: فعل وهو الإشراك والقول به، والثاني: ترك وهو عدم النظر والإيمان فالعاقل البالغ إذا كان في مدينة الرسول ولم يأت بالإيمان فهو كافر سواء قال بالشرك أو لم يقل، لكن الإيمان لابد معه من العمل الصالح، فإن الاعتقاد الحق عمل القلب، وقول لا إله إلا الله عمل اللسان وشيء منه لابد منه.
المسألة الثانية:
قال: {فَعَلَيْه} فوحد الكناية وقال: {فَلأَنفُسهمْ} جمعها إشارة إلى أن الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، أما الغضب فمسبوق بالرحمة، لازم لمن أساء.
المسألة الثالثة:
قال: {فَعَلَيْه كُفْرُهُ} ولم يبين وقال في المؤمن {فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُونَ} تحقيقًا لكمال الرحمة فإنه عند الخير بين وفصل بشارة، وعند غيره أشار إليه إشارة.
{ليَجْزيَ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات منْ فَضْله إنَّهُ لَا يُحبُّ الْكَافرينَ (45)}.
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير وعمله الصالح، وهو الجزاء الذي يجازيه به الله والملك إذا كان كبيرًا كريمًا، ووعد عبدًا من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه ثم أكده بقوله: {من فَضْله} يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء، ثم إني لا أجازيك من العدل وإنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء، ثم قال تعالى: {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} أوعدهم بوعيد ولم يفصله لما بينا وإن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل، فإن عدم المحبة من الله غاية العذاب، وأفهم ذلك ممن يكون له معشوق فإنه إذا أخبر العاشق بأنه وعدك بالدراهم والدنانير كيف تكون مسرته، وإذا قيل له إنه قال إني أحب فلانًا كيف يكون سروره.
وفيه لطيفة وهي أن الله عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ} [الروم: 44] وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال: {ليجزي الذين آمنوا} ثم قال تعالى: {إنَّهُ لاَ يُحبُّ الكافرين} لأن قوله: {مَن كَفَرَ} في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد ونهيه عن فعله بالتهديد وقوله: {مَّنْ عَملَ صالحا} لتحريض المؤمن فالنهي كالإيعاد والتحريض للتقرير والإيعاد مقدم عند الحكيم الرحيم، وأما عندما ذكر الجزاء بدأ بالإحسان إظهارًا للكرم والرحمة، فإن قال قائل هذا إنما يصح أن لو كان الذكر في كل موضع كذلك وليس كذلك فإن الله كثير من المواضع قدم إيمان المؤمن على كفر الكافر وقدم التعذيب على الإثابة، فنقول إن كان الله يوفقنا لبيان ذلك نبين ما اقتضى تقديمه، ونحن نقول بأن كل كلمة وردت في القرآن فهي لمعنى وكل ترتيب وجد فهو لحكمة، وما ذكر على خلافه لا يكون في درجة ما ورد به القرآن فلنبين من جملته مثالًا وهو قوله تعالى: {يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الذين ءامَنُوا وَعَملُوا الصالحات فَهُمْ في رَوْضَةٍ} [الروم: 14، 15] قدم المؤمن على الكافر، وههنا ذكر مثل ذلك المعنى في قوله: {يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] أي يتفرقون فقدم الكافر على المؤمن فنقول هناك أيضًا قدم الكافر في الذكر لأنه قال من قبل: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلسُ المجرمون} [الروم: 12] فذكر الكافر وإبلاسه، ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] فكان ذكر المؤمن وحده لابد منه ليبين كيفية التفرق بمجموع قوله: {يُبْلسُ المجرمون} وقوله في حق المؤمن: {فى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} لكن الله تعالى أعاد ذكر المجرمين مرة أخرى للتفصيل فقال: {وَأَمَّا الذين كَفَرُوا}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرّ وَالْبَحْر}.
في {الفَسَاد} أربعة أقاويل:
أحدها: الشرك، قاله السدي.
الثاني: ارتكاب المعاصي، قاله أبو العالية.
الثالث: قحط المطر، قاله يحيى بن سلام.
الرابع: فساد البر: قتل ابن آدم أخاه، وفساد البحر: أخذ السفينة غصبًا.
ويحتمل خامسًا: أن ظهور الفساد ولاة السوء.
{في الْبَرّ وَالْبَحْر} هنا أربعة أقاويل:
أحدها: أن البر الفيافي والبحر القرى، قاله عكرمة، وقال: إن العرب تسمي الأمصار البحار.
الثاني: البر أهل العمود والبحر أهل القرى والريف، قاله قتادة.
الثالث: أن البر بادية الأعراب، قاله الضحاك والبحر الجزائر؛ قاله عطاء.
الرابع: أن البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر، قاله ابن عباس.
وللمتعمقين في غوامض المعاني وجهان:
أحدهما: أن البر النفس والبحر القلب.
الثاني: أن البر اللسان والبحر القلب. لظهور ما على اللسان وخفاء ما في القلب. وهو بعيد.
{بمَا كَسَبَتْ أَيْدي النَّاس} قال السدي: بما عملوا من المعاصي واكتسبوا من الخطايا.
{ليُذيقَهُم بَعْضَ الَّذي عَملُوا} من المعاصي جزاءً معجلًا في الدنيا وجزاءً مؤجلًا في الآخرة فصار عذاب الدنيا بعض الجزاء.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يرجعون عن المعاصي، قاله أبو العالية.
الثاني: يرجعون إلى حق، قاله إبراهيم.
الثالث: يرجع من بعدهم، قاله الحسن.
قوله تعالى: {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين الْقَيّم}.
فيه وجهان:
أحدهما: أقم وجهك للتوحيد، قاله السدي.
الثاني: استقم للدين المستقيم بصاحبه إلى الجنة، قاله ابن عيسى.
{من قَبْل يَأَتيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ منَ اللَّه} يعني يوم القيامة.
{يَوْمَئذٍ يَصَّدَّعُونَ} قال ابن عباس: معناه يتفرقون قال الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة حقبةً ** من الدهر حتى قيل له يتصدعا

أي لن يتفرقا.
ويحتمل وجهًا ثانيًا: أنه ما يصدعهم يوم القيامة من أهوال.
وفيه قولان:
أحدهما: يتفرقون في عرصة القيامة فريق في الجنة وفريق في السعير، قاله قتادة.
الثاني: يتفرق المشركون وآلهتهم في النار، قاله الكلبي.
قوله: {فَلأَنفُسهمْ يَمْهَدُونَ} فيه تأويلان:
أحدهما: يسوون المضاجع في القبور، قاله مجاهد.
الثاني: يوطئون في الدنيا بالقرآن وفي الآخرة بالعمل الصالح، قاله يحيى بن سلام. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم كرر مخاطبة الكفرة في أمر أوثانهم فذكر أفعال الله تعالى التي لا شريك له فيها وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء ولا يمكن أن ينكر ذلك عاقل، ووقف الكفار على جهة التقرير والتوبيخ هل من شركائهم أي الذين جعلوهم شركاء من يفعل شيئًا من ذلك، وهذا الترتيب ب {ثم} هو في الآحاد شيئًا بعد شيء، ومن هنا أدخل الفقهاء الولد مع أبيه في تعقب الأحباس إذا كان اللفظ على أعقابهم ثم على أعقاب أعقابهم، ثم نزه تعالى نفسه عن مقالتهم في الإشراك، وقرأ الجمهور {يشركون} بالياء من تحت، وقرأ الأعمش وابن وثاب بالتاء من فوق، ثم ذكر تعالى على جهة العبرة ما ظهر من الفساد بسبب المعاصي في قوله: {ظهر الفساد في البر والبحر} واختلف الناس في معنى {البر والبحر} في هذه الآية، فقال مجاهد {البر} البلاد البعيدة من البحر، والسواحل والمدن التي على ضفة البحر والأنهار الكبار، وقال قتادة {البر} الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري، والمدن جمع بحرة.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومنه قول سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول الحديث ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوجوه، ومما يؤيد هذا أن عكرمة قرأ {في البر والبحور} ورويت عن ابن عباس، وقال مجاهد أيضًا: ظهور الفساد في البر قتل أحد ابني آدم لأخيه، وفي البحر أخذ السفن غضبًا، وقال بعض العباد {البر} اللسان والقلب، وقال الحسن بن أبي الحسن {البر والبحر} هما المعروفان المشهوران في اللغة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا هو القول الصحيح وظهور الفساد فيهما هو بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتغلب عدو كافر، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر، قال ابن عباس: الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع الله عنها هذه، والأمر بالعكس في أهل المعاصي وبطر النعمة، وكذلك كان أمر البلاد في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد كان الظلم عم الأرض برًا وبحرًا، وقد جعل الله هذه الأشياء ليجازي بها على المعاصي فيذيق الناس عاقبة إذنابهم لعلهم يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة الله تعالى، وقوله تعالى: {بما كسبت} تقديره جزاء ما كسبت، ويحتمل أن تتعلق الباء ب {ظهر} أي كسبهم المعاصي في البر والبحر هو نفس الفساد الظاهر، والترجي في لعل هو بحسب معتقداتنا وبحسب نظرنا في الأمور، وقرأ عامة القراء والناس {ليذيقهم} بالياء، وقرأ قنبل عن ابن كثير والأعرج وأبو عبد الرحمن السلمي {لنذيقهم} بالنون ومعناهما بين، وقرأ أيضًا أبو عبد الرحمن {لتذيقهم} بالتاء من فوق.
{قُلْ سيرُوا في الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقبَةُ الَّذينَ منْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْركينَ (42)}.
هذا تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار فيمن سلف من الأمم وفي سوء عواقبهم بكفرهم وإشراكهم، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بإقامة وجهه، والمعنى اجعل قصدك ومسعاك للدين أي لطريقه ولأعماله واعتقاداته، و{القيم} أصله قيوم اجتمعت الواو والياء وسبقت الياء وهي ساكنة فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى في الثانية، ثم حذره تعالى من يوم القيامة تحذيرًا يعم العالم وإياهم القصد، و{لا مرد له} معناه ليس فيه رجوع لعمل ولا لرغبة ولا عنه مدخل، ويحتمل أن يريد لا يرده راد حتى لا يقع وهذا ظاهر بحسب اللفظ، و{يصدعون} معناه يتفرقون بعد جمعهم، وهذا هو التصدع والمعنى يتفرقون إلى الجنة وإلى النار، ثم قسم الفريقين بأحكام تلحقهم من أعمال في الدنيا ثم عبر عن الكفر بعليه وهي تعطي الثقل والمشقة وعن العمل الصالح باللام التي هي كلام الملك، و{يمهدون} معناه يوطئون ويهيئون وهي استعارة منقولة من الفرش ونحوها إلى الأحوال والمراتب، وقال مجاهد: هذا التمهيد هو للقبر.
{ليَجْزيَ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات منْ فَضْله إنَّهُ لَا يُحبُّ الْكَافرينَ (45)}.
اللام في قوله: {ليجزي} متعلقة ب {يصدعون} [الروم: 43]، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك أو فعل ذلك {ليجزي} وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى: {من كفر} [الروم: 43] {وعمل صالحًا} [الروم: 43]، وقوله تعالى، {لا يحب الكافرين} ليس الحب بمعنى الإرادة ولكنه بمعنى لا يظهر عليهم أمارات رحمته ولا يرضاه لهم دينًا ونحو هذا. اهـ.